“النهار .. اللواء.. الأخبار.. الشرق الأوسط.. كلو موجود واللوتو موجود” بهذه الكلمات يصدح صوت محمود أبو الحسن بائع الصحف من داخل كشكهُ المتمركز قرب كني
“النهار .. اللواء.. الأخبار.. الشرق الأوسط.. كلو موجود واللوتو موجود” بهذه الكلمات يصدح صوت محمود أبو الحسن بائع الصحف من داخل كشكهُ المتمركز قرب كنيسة الكبوشية في شارع الحمراء. أمضى هذا الرجل الستيني كل حياته متجولاً تحت جسر الكولا، شارع البربير، شارع عفيف الطيبة وقرب تقاطع السوديكو حاملا رزمات الصحف على ظهره لبيعها للمصارف والدوائر الرسمية وغيرها من المؤسسات التي كانت تنتظر بائعو الصحف مع شروق الشمس حتى تحصل على عدد جديد من صحيفتها المفضلة او التي تتوافق مع تطلعاتها السياسية.
أحتسي كوب القهوة العربية عند أبو سليم الذي كان يتمركز بالقرب من صيدلية المدينة بعدها أحمل الصحف على ظهري وأمر على كل المقاهي والمطاعم والمصارف
يحدثنا محمود عن ”أيام العز“ كما يصفها، حين كانت الصحف تحتل المرتبة الأولى في حياة كل لبناني، ”كنا نذهب لاستلام الصحف عن الساعة الرابعة صباحاً، أحتسي كوب القهوة العربية عند أبو سليم الذي كان يتمركز بالقرب من صيدلية المدينة بعدها أحمل الصحف على ظهري وأمر على كل المقاهي والمطاعم والمصارف لأجد جميع الموظفين بانتظار شراء الصحف وقراءتها..لم نكن حينها أحمل همّاً لأنني كنت أعلم بأنني أوزع كل الصحف خلال نهار”.
هذا الحنين الى الماضي الجميل جعل محمود متمسكاً بمهنة بيع الصحف على الرغم من أنها لم تعد المصدر الكافي لتأمين لقمة العيش فيلجأ الى بيع أوراق اللوتو الى جانب الصحف مما قد يحفز ذاك الباحث عن الحظ بأن يجبر خاطرهُ بجريدة واحدة ”بياخدها عالبيعة“ على حد تعبيره.
يستذكر محمود أول أيامه في مهنة بيع الصحف بالقول ”أتيت الى هنا الى شارع الحمراء عندما كنت في العاشرة من عمري، كنت أعمل مع خالي الذي علّمني كل الطرقات التي يجب ان أمُر عليها كل يوم.. الصحف حينها كانت بعزّها فكنت بائعاً متجولاً لا أقف في مكان معيّن وكانت هذه المهنة كافية لي ولعائلتي لتأمين قوت يومنا”.
الأزمات الاقتصادية القاتمة تلقى بظلالها على بائعو الصحف
كانت قراءة الصحف في لبنان من أهم النشاطات اليومية التي يبحث عنها المواطنون صباح كل يوم، حيث كانت الجريدة هي من أساسيات الصباح مع فنجان القهوة وصوت فيروز في مقاهي وشوارع بيروت، حتى تحوّل هذا المشهد الى رزمات مكدّسة الى جانب الطريق او على يد البائع.
يرى محمود أن ”في مطلع عام ١٩٩٧ ومع بدء الأزمات الاقتصادية في لبنان بدأ العد العكسي السلبي على الصحف مما أدى الى تراجع مهنة بائعو الصحف بنسبة ٨٠٪، لكن لا أنكر دور الجريدة المهم الى يومنا هذا خاصة عند الأحداث الكبيرة والمهمة في البلد حينها أبيع كل الصحف صباحاً”، معتبراً أن “مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت بتردي وتراجع مهنة بائعو الصحف، حيث يلجأ العديد من المواطنين الى قراءة المقالات عبر المواقع الإلكترونية الخاصة لكل صحيفة”.
وعن أسباب تراجع مبيعات الصحف، لفت المدير الإداري لصحيفة ”اللواء“ اللبنانية عدنان غلاييني الى أن ”الجرائد والمجلّا تعتبر اليوم للجيل الستيني الذي لا يمكنه الاستغناء عن الصحف ولو توفر له البديل عنها، لأن الشباب اليوم أصبحوا يعتمدون على هواتفهم الذكية لتصفح الأخبار“.
وفي الحديث عن الأزمة الاقتصادية في لبنان، رأى غلاييني أن ”ارتفاع سعر الصحف ادى الى تراجع بيعها بشكل واضح“، متوقعاً أن ”العوامل جميعها من ارتفاع سعر الصحيفة الى التطور التكنولوجي سيؤدي مستقبلاً الى زواله لكن بشكل غير نهائي لأن هناك جزء من صحف اليوم مدعوم سياسيا وجزء آخر مازال يحافظ على بقاءه بسبب الإعلانات المدفوعة”.
الكفاح المستمر للبقاء بين الورق
يتجوّل بائعو الصحف او يتسمّرون في أكشاكهم لكنهم رغم ما مرّ عليهم وما زال يمر فإن بائعو الصحف اليوم صامدون برزماتهم ومجلاتهم على طول الطريق انطلاقاً من شارع القنطاري وصولاً الى آخر نقطة في شارع الحمراء. يؤكد محمود أن ”هذه المهنة هي ملجئي الوحيد ولم أفكر قط في التراجع عنها أو البحث عن مهنة أخرى، لأن حياتي أصبحت بين هذه الورق والرزمات”.
“أفكر أحياناً لو أنني سأترك هذه المهنة بعد كل هذه السنوات من سيقوم ببيع الصحف مكاني؟ من المؤكد أن بائع الصحف في لبنان عندما يرحل لن يرث أحد منه هذه المهنة، أي أننا نُعتبر آخر جيل سيمارس هذه المهنة في لبنان“ قال شكر متنهداً وهو يحمل الرزمات المتدلّية بيده اليمنى وفنجان القهوة باليُسرى، مضيفاً “بس نروح رح تروح معنا الصحف..خلينا نكافح لآخر نفس”.
يسدل الليل ستاره على شارع الحمراء، فيسارع بائعو الصحف الى توضيب أكشاكهم وتجميع ما تبعى من أعداد الصحف التي لم تباع، يودّعون الأرصفة والمارة ويذهبون الى بيوتهم مع الاوراق التي بيقت دون قراءها. تعددت الأسباب التي ذكرت عن سبب تراجع هذه المهنة لكن النتيجة تبقى واحدة ”مهنة بيع الصحف في لبنان تلفظ أنفاسها الأخيرة”.
COMMENTS