Homeتراث

الزراعة التقليدية … خضروات مرويّة بالحبّ

أبو غسان مزارع حافظ على طرق الزراعة التقليدية بأدواته البسيطة مع اتجاه الزراعة التقليدية إلى الانقراض، أبو غسّان مزارع سبعينيّ لم تدخل التكنولوجيا

الكشك: من تراث المطبخ اللبناني
فنّ الكروشيه … تراث لا يتلف
الكبة: تراث المطبخ الجنوبي
أبو غسان مزارع حافظ على طرق الزراعة التقليدية بأدواته البسيطة

مع اتجاه الزراعة التقليدية إلى الانقراض، أبو غسّان مزارع سبعينيّ لم تدخل التكنولوجيا أرضه.

أربعون عاما من عمره قضاها بين شتلات الخضار وبذورها، يزرع في كلّ موسم ما تعلّم من أجداده، بلا شهادة في الهندسة الزراعية، ولا حتى شهادة مدرسيّة، متّكلا في زراعته على الأدوات التقليديّة التي لم نعد نراها في الأراضي الزراعيّة الواسعة، ومُنتجا مختلف أنواع الخضار البلديّة الطازجة وأجودها دون مساعدة التكنولوجيا الحديثة وأدواتها، أو مساعدة أيّ كان.

يوميات مزراع

يبدأ العمّ أبو غسّان (73 عاما) يومه مع بداية بزوغ الفجر، ولا يعود إلى المنزل حتى الظهر، حاملا تشكيلة من الخضار المتنوعة التي طلبها الزبائن منذ اليوم السابق، ليرتّبها بحب كلّ طلب. بعدها يخلع الثياب المخصّصة للعمل، يتناول وجبة الغداء، تتبعها قيلولة قصيرة، قبل أن يعود وحده إلى أرضه التي يحبّ، والتي تجاور منزله منذ أعوام طويلة. تراه متأبّطا فأسا أو معولا أو منجلا، حاملا بيديه إبريق الريّ أو كيس البذور، فأدوات الزراعة اليدوية هذه أصبحت منذ سنوات طويلة رفيقة دربه، ولها الفضل بعد جهده وتعبه في المحاصيل التي تنتجها أرضه المتواضعة التي يرويها “بعرق جبينه قبل مياه الشرب الحلوة” على حدّ تعبيره.

ادوات الزراعة التقليدية
أدوات الزراعة التقليدية رفيقة درب المزارعين القدامى (صورة من فيسبوك)

الزراعة التقليدية .. خضروات صحيّة طازجة

مزروعات هذه الأرض متنوعة، من البندورة والخيار والفليفلة إلى السلق والسبانخ والهندباء، وصولا إلى الحشائش بأنواعها، بحسب كلّ موسم زراعيّ، وكلّها “بلديّة” كما يعبّر المزارعون، وهي تختلف عن المزروعات المتوفّرة عادة في الأسواق، كونها تتغذّى على السّماد العضويّ فقط، والذي يُباع في مزارع الدواجن والمواشي، دون استعمال المواد الكيميائية والهورمونات والخيم البلاستيكية التي تستخدم في الزراعة الحديثة، والتي تؤمّن الخضار للناس في غير مواسمها. فالبندورة البلدية تجدها في الشتاء، والخيار في الخريف، لكنّك تجدهما في السوق في كلّ أيام السنة لأنّ المزارعين لم يعودوا يتّكلون على الأساليب والأدوات التقليدية كما يفعل أبو غسّان، وهذا بحسب الأخير ما يجعل الزبائن يأتون إليه من مناطق بعيدة بحثا عن البلديّ والطازج والصحّيّ.

خضروات بلدية
الحشائش أبرز الخضروات البلدية المطلوبة

أما عن الأسعار التي يبيع بها منتوجات أرضه فهي أقلّ دائما من أسعار السوق، فتكلفة الزراعة التقليدية بسيطة والأدوات والبذور متوفّرة في كل المواسم، “والمي كتيرة والحمدلله” كما يعبّر أبو غسان. ويضيف: “هذه المهنة التي تعلّمتها من والدي علّمتني أنه كلما اعطيت الأرض أعطتك، وكلما أعطتني الأرض أعطيتُ غيري بكلّ حبّ ورضا، وقد تربّينا على أنّ القناعة كنز لا يفنى”.

بحسب أبو غسان فإنّ الربح في الزراعة التقليدية موسميّ، كحال الكثير من الأعمال التجارية اليوم، خاصة مع ارتفاع الأسعار الجنوني الذي رافق الأزمة الاقتصادية، وتقلبات سعر الدولار لفترات طويلة. فمثلا ينتظر المزارعون أشهر الصيام ليبيعوا الحشائش والخضار التي يزيد عليها الطلب بشكل كبير خلال صيام المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، كذلك يعتمد بعض المزارعين على مواسم محدّدة تجني لهم أرباحا لا بأس بها، أبرزها موسم الملوخية والبامية في الصيف، والتي تباع في الأسواق بأسعار عالية نظرا لوجودها في فترات محددة وقصيرة.

كنز لا يقدّر بثمن

“هذه الأرض هي كنزي وما جنيته طيلة عمري، وهذه الخضار أزرعها بحبّ وأرويها وأحصدها بالحبّ أيضا”، يقول أبو غسّان، ويضيف: “عندما أنزل إلى الأرض أشعر بالأمان، أتحدّث مع النبتة كما أتحدّث مع الناس، وأشعر أنّها هي أيضا تحدّثني وتضحك لي”.

ويذكر قصة سمعها من والده عن “عريشة” لم تكن تحمل العنب، فبعد أن يئس منها المزارع اقترب منها حاملا مقص شجر وهدّدها بالقطع إن لم تحمل. ويذكر الراوي أنّ العريشة حملت في الموسم التالي بأعداد كبيرة من عناقيد العنب خوفا من أن ينفّذ المزارع تهديده! هذه القصة وإن لم تكن صحيحة إلا أنّ الكثير من المزارعين لا يزالون يؤمنون بها، وبأنّ النبتة تسمع وتشعر بمن يقوم بالاعتناء بها، وتعطيه بحسب اهتمامه بها.

هذه العلاقة الغريبة بين المزارع السبعينيّ ونباتاته صعبة التفسير رغم إيمانه القوي بقيمتها، فتراه يمسح عرق جبينه بيديه الباردتين، دون أن تفارق الابتسامة وجهه حتى بعد يوم زراعيّ طويل ومتعب. فمع غروب الشمس يرجع إلى المنزل، تفوح منه رائحة الكزبرة والبقدونس والنعناع البلديّ الذي لا تجده في السوق، لكنّه عند العم أبو غسّان متوفر في كلّ الأيام وغبّ الطلب.

اقرأ المزيد للكاتب نفسه

COMMENTS

WORDPRESS: 0
DISQUS: 0