لطالما تساءلنا عن القصص الكامنة وراء أسماء الأكلات الشعبية الموروثة، وما إن بحثنا قليلا حتى وجدنا أنّ وراء اسم كل أكلة عربيّة حكايةٌ قديمة تناقلتها ا
لطالما تساءلنا عن القصص الكامنة وراء أسماء الأكلات الشعبية الموروثة، وما إن بحثنا قليلا حتى وجدنا أنّ وراء اسم كل أكلة عربيّة حكايةٌ قديمة تناقلتها الأجيال. يتميّز المطبخ العربي بتنوّع أطباقه ومحافظته على معظم الأكلات القديمة التي حفرت في ذاكرة الأجداد، وخصوصا في بلاد الشام التي تتشارك العديد من الأكلات الشعبية المعروفة، والتي وصل بعضها إلى العالمية، وصارت تُقدَّم في أفخم المطاعم رغم غرابة أسمائها.
أسماء الأكلات الشعبية لم تأتِ من عبث
رغم غزو الوجبات السريعة بيوت العرب، وحلولها على رأس قائمة الأطباق المفضّلة لدى العديد من الأسر العربية التي صار يخجل أبناؤها من الاعتراف بالوجبات القديمة، إلا أنّ الجدات والأمهات لا زلن يشعرن بالفخر عندما تُسأل إحداهنّ عن طريقة إعداد إحدى هذه الأكلات الشعبية التلقيدية، وكأنها تملك كنزا من المعلومات القيّمة.
ولا يمكن الإنكار أنّ جزءا كبيرا من أبناء هذا الجيل يحنّ إلى تلك الأكلات الشعبية الموروثة التي تذكّره برائحة منزل الجدّات، و”عزيمة الغداء” عند الأم حيث يجتمع أبناؤها وأحفادها على أكلة ملوخية، شيش برك أو داوود باشا، وتختتم بتحلية بطبق “زنود الست” أو “الرز بحليب” أو المفتقة.
أكلات عديدة تحمل أسماء قد تبدو مستغربة، كلها تفتح الباب أمام سؤال واحد: لماذا سمّيت بهذا الاسم؟ بحثنا خلف كل اسم لنجد انّ وراء كل أكلة قصة طريفة سنذكرها تباعا.
الملوخية… من مصر إلى بلاد الشام
هي أكلة الملوك كما تعبّر معظم الأمهات، فإذا ما أعدّتها في هذه الأيام إحدى الجارات يمكنك أن تشمّ رائحتها قبل اقترابك من باب منزلها، ولا عجب أن تفوح رائحة الكزبرة والثوم والدجاج في كل طوابق المبنى. ويرجع أصل هذه الأكلة إلى مصر وتحديدا في العهد الفاطمي حيث كان تسمّى “ملوكية“، وتعني “ما يخص العائلة المالكة”. تقول الرواية المصرية أن المصريين القدامى عرفوا الملوخية عندما وجدوا أوراقها تنمو على ضفاف النيل، لكنهم لم يتجرّأوا على أكلها خوفا من أن تكون سامة، وكانوا يسمّونها “خية“.
وعندما احتلّ الهكسوس مصر أجبروا المصريين على تناولها لإهانتهم، وكانوا يقولون لهم “ملو-خية” أي كلوا أوراق “الخيّة”. وبعد أن تناولوها ولم يتسمموا اكتشفوا أنها صالحة للأكل.
وفي رواية أخرى قيل أنّ حساءً شافيا مصنوعا من نبات الملوخية ساعد حاكمًا مصريًا في القرن العاشر الميلادي على استعادة صحته وعافيته، فأطلق عليها اسم “ملوكية” وجعل أكلها محصورًا بالملوك. ولا تزال هذه الأكلة سيّدة الأكلات الشعبية في مصر، يقطّعون أوراقها ويطبخونها مع لحم الأرانب، ويتناولونها على شكل حساء. أما في بلاد الشام فتطبخ أوراقها كاملة مع الكزبرة والثوم، مضافا إلى الدجاج أو اللحم.
داوود باشا… التركي المحبّ للكفتة
من الأكلات الشعبية الشهيرة، وهي عبارة عن كرات لحم صغيرة محمرة في الزيت، يتمّ طهيها مع صلصة الطماطم، وتقدّم مع الأرز أو الخبز. تشاركت معظم البلاد العربية هذا الطبق الشهي وتنافس الطهاة في إعداده وإضفاء كلّ منهم لمسته الخاصة عليه.
وتعود تسمية هذه الأكلة إلى أحد الملوك الذي كان يعشق تناول الكفتة، وهو داوود باشا عبد الرحمن، الوالي العثماني العاشر الذي عُيّن واليا على مصر أيام الحكم العثماني، والذي عُرف عنه حبّه للكفتة بمعناها الذي نعرفه اليوم، ولم تكن متداولة على مائدة المصريين حينها، فأدخلها الوالي العثماني من تركيا، حيث تُعدّ أكلة شعبية هناك، وأمر طهاته وخادميه بإعدادها يوميا له، ومعاقبتهم إذا نسوا طبخها يوما، وعرفه ضيوفه أيضا بهذا الطبق، حتى اقترن اسمه عبر التاريخ بطبق الكفتة الذي أصبح فيما بعد يعرف ب “كفتة داوود باشا”.
شيش برك أو الباشا وعساكره؟
شيش برك أو شُشْبَرَك هو طبق مشهور في بلاد الشام وشمال المملكة العربيّة السعودية والحجاز منذ أكثر من 100 عام، يعود أصله إلى أوزبكستان، ويقول البعض أنّ أصول هذه الأكلة تعود إلى أواسط آسيا، حيث نقلها الأتراك الرحّل إلى الأناضول، ثم انتقلت إلى البلاد العربية بعد قيام الدولة العثمانية، حيث أن أصل اسمها “شيش برك” هو كلمة تركية تعني العجين المنتفخ (المحشي).
وهناك اختلافات بسيطة في هذه الأكلة بين المطبخين العربي والتركي، فكلما كانت حبات العجين أصغر يعتبر ذلك تقديرا أكبر للضيف لما يُبذل من جهد لتحضيره. ويتكوّن طبق الشيش برك من قطع من العجين المحشوة باللحم المفروم، والتي تُلفّ على شكل أذن الإنسان أو القبّعة، ثم يقوم البعض بقلي قطع العجين بعد حشوها، أو شويها أو سلقها مع الماء والأرزّ، لتقدّم مع اللبن الرائب البارد أو المغليّ، كما أنّ البعض يضيف إليه رشة من الكزبرة والثوم والمكسّرات المقلية، ويقدّم إلى جانبها “الرز المفلفل”، بحسب ما يفضّله أفراد الأسرة.
أما عن “الباشا وعساكره” فهي تسمية سورية لنفس أكلة الشيش برك، ولكن غالبا ما يتمّ إضافة بعض أقراص الكبة المحشوة باللحم إليها، فتصبح الكبة كالباشا، وقطع الشيشبرك عساكره.
زنود الست… أشهر الحلويات الشامية
طبق حلويات اشتهرت به بلاد الشام، وهو عبارة عن قطع من عجينة البقلاوة محشية بالقشطة أو المهلبية، تلفّ على شكل أصابع وتقلى بالزيت حتى تصبح مقرمشة وذهبية اللون، ثم تغطىّ بالقطر، ويرشّ عليها الفستق الحلبي المفروم مع بعض قطع زهر الليمون المقطّر. تعتبر هذه الحلوى من الأشهر والأكثر طلبا في شهر رمضان، كونها غنية بالسكريات والدهون التي تمد الجسم بالطاقة والنشاط والحرارة، كذلك صار يتمّ حشوها بالآيس كريم وتقديمها في فصل الصيف.
ويعود أصل هذه الأكلة إلى مدينة كركوك العراقية، أو أنها جاءت من إسطنبول ونقلها الأتراك للسوريين واللبنانيين إبان الحكم العثماني للبنان واشتهرت بها مدينتي بغداد وكركوك فيما بعد.
أما عن سبب تسميتها فقيل إنها سُمّيت بـ”زنود الست” حينما قام حاكم طرابلس بربر آغا بعمل احتفال كبير لوجهاء المدينة ووزّع فيها حلوى جديدة على شكل “زنود”، وكان الحفل يضم العديد من السيدات، فقام أحد المدعوين الذي كان محبّا للنساء وكثير المغازلة لهنّ باقتراح تسمية هذا النوع من الحلوى بـ”زنود الست”، ووافقه الحاكم التركي مجاملة للسيدات.
المفتّقة أكلة بيروتيّة أصيلة
تعتبر “المفتقة” من الوصفات البيروتية الشهيرة التي يتنافس أهل بيروت في تحضيرها، حتى أصبحت جزءا من تراث مدينة بيروت. يحبّها الكبرا والصغار، ويتبادلون أطباق هذه الحلوى في ما بينهم خاصة في المناسبات، أو يشاركون في طهوها حيث يتجمّعون حول “الدست” في انتظار أن “يفتق سارج القدر”، أي أن يطفو زيت الطحينة، مغلّفاً كتلة “المفتقة“، وذلك بعد عمليّة تتطلّب ساعات. وتتكوّن وصفة المفتّقة من الطحينة والأرز المصري والسكر والكركم (العقدة الصفراء) والصنوبر، وكانت تعد في مناسبة “أربعة أيوب” الموافقة في الأربعاء الأخير من شهر نيسان/أبريل، حين كان أهالي المدينة ذات الأبواب السبعة يفترشون الأجزاء الرملية من شاطئ بيروت، بين صخرة الروشة وصولاً حتى ملهى “ايدن روك”، مروراً بالرملة البيضاء، ويطهون هذه الأكلة الشعبية الشهيّة.
هذه القصص الطريفة صارت جزءا من التراث، تتناقلها الأجيال وتحكيها الجدات للأبناء والأحفاد، في محاولة للحفاظ على تاريخ المطبخ العربي الذي يتنافس على الحفاظ على الأطباق التقليدية مع إضافة اللمسة الخاصة بكلّ بلد، بهدف تخليد هذه الأكلات الشعبية التي تفوح منها رائحة ذكريات الزمن الجميل.
COMMENTS